فصل: باب: بُنْيَانِ المَسْجِد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ التَّوَجُّهِ نَحْوَ القِبْلَةِ حَيثُ كَان

هذا البابُ مأخوذٌ مِنَ القرآن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حيث كان‏)‏ ما المراد منه حيث كانت قِبْلَة، أو حيث كان مسقتبِلا، وعند أبي داود في روايةٍ ما يدل على أنَّه ينبغي له أَنْ يَتَوَجَّهُ إليها عند التحريم ثم يُرْسِل دابتَه على الطريق تسير حيث شاءت، ووسع فيه الحنفية فلم يَشْتَرِطوا الاستقبال عند التحريمة أيضًا‏.‏

ثم إني ترددت في رسالتي أنَّ قَلْبَ الصلاةِ التحريمة أو موضع التأمين‏.‏ والاهتمام في الشرع وإنْ كان بالتحريمة لكن القلب هو الثاني لأنَّ الأجر في إدراك التحريمة أجر المبادرة إلى الصلاة، أما مغفرة الذنوبِ بما تقدم وما تأخر ففي إدراك التأمين هو القلب والله تعالى أعلم‏.‏

بقي إدراك الركعة بإدراك الركوع فليس لكونه قلبًا باعتبار أنَّ إدراكَ الرَّكعة إلى أي جزء منها فهو لقاصرِ الهمَّةِ إذ لم يُوَفَّقْ لإِدراكِ التأمين وفات عنه، ثم دَخَلَ في الرُّكوعِ، عَدَّهُ الشرع مُدْرِكًا للركوع، ولذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول‏:‏ لا تسبِقْني بآمين‏.‏ ‏(‏عند مالك رحمه الله تعالى‏)‏ فكان يهتم بآمين ما لم يكن يهتم بالفاتحة‏.‏ ومن الناس مَنْ زَعَمَهُ قائلا بالقراءة خَلْفَ الإِمام، مع أنه يراعي آمين ولا يبالي بالفاتحة لأنه صحابي يَعْلَم أَنَّ آمين هو الطابع، أما الفاتحة فقد كَفَى عنه إمامهُ بخلاف آمين، فإِنه وظيفتُهُ، ولا ينوب عنه إمامه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أبو هريرة رضي الله عنه‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ قطعةٌ مِنْ حديثٍ طَوِيلٍ في مُسيء الصلاة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فَتَحرَّف القَوْمُ‏)‏ لا يُقالُ إنَّه نَسْخٌ فكيف عملوا بخبر الواحد‏.‏ لأنا نقول‏:‏ أصلُ الخبرِ قطعي، نعم بلوغه بطريق ظنِّي، فالظنُّ في الطريق لا في الناسخ، وإنَّما لم يُؤثر فيه ظنِّية الطريق لأنه كان عندهم ذريعة التحقيقِ، وأمكن لهم تبين الحال بذهابهم إلى المدينة، فالأصلُ أنَّه لا بَأْسَ بالعَمَلِ على الظنِّي إذا كان قطعيًا مِنْ أصله، ولذا لم يُشْتَرط في تبليغ الدين عدد التواتر عند أحد، ولا يُسَوَّغُ لكافرٍ أَنْ يقول إنَّ دينَكُم وَإِنْ كان قطعيًا في نفسه لكنه لمّا لم يَبْلُغ إليّ إلا مِنْ أخبارِ الآحادِ فلا يكون حجةً ملزمةً‏.‏ ولم يَكْتُبه الأصوليون، وإنما تنبهتُ له‏.‏ وقد ذكرته في «نيل الفرقدين» و «إكْفَارُ الملحدين»، وقد مرَّ هذا البحث في المقدمة فَرَاجعهُ مع بيان أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم لمَّا تَكَفَّل بإِخبارِهم لزِم أَنْ تصحَّ صلواتُهم التي صلَّوْها إلى بيت المقْدِس قَبْلَ بلوغِ الناسخ إليهم‏.‏ وقد فَرَغْنَا من تحقيق أَنَّ النَّاسِخَ نَزَلَ في صلاةِ الظهر أو العصر، وصرح الحافظ بُرْهَان الدين الحلبي الحنفي في شرح البخاري‏:‏ أَنَّ التَحْوِيلَ كان في ركوعِ الرَّكعة الثالثة‏.‏ وقد كان «تيمر» حَرَق كتبه وتصانيفه‏.‏

واعلم أن الواو في «تيمور» إنِّما هو على مذهبِ مَنْ يرسمون الإِعراب بالحركاتِ في صورة الحروف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هشام‏)‏ بن عبد الله وهذا هو الذي تُوفي محمدٌ رحمه الله تعالى في بيته، وفي هذا اليوم تُوفي الكِسَائي رحمه الله تعالى أيضًا، وكان محمدٌ رحمه الله تعالى قاضيًا في الرَّقَّة، ولما بَلَغَ الرشيد قال‏:‏ دفنا اليوم الفقه والنحو معًا‏.‏

أَسِفْتُ على قاضي القُضَاةِ محمدٍ *** وأذريتُ دمعي والفؤادُ عميدُ

فَقُلْتُ إذا ما أَشْكَلَ الخَطْبُ مَنْ لنا *** بإيضاحه يومًا وأَنْتَ فَقِيْدُ

401- قوله‏:‏ ‏(‏لا أدري أزاد أو نَقَصَ‏)‏ وسيأتي في البابِ الذي بعده أنَّه جَزَمَ بالزِّيَادةِ، فلعله شَكَّ فيه مرةً وجَزَمَ به أُخْرَى‏.‏

401- قوله‏:‏ ‏(‏فليتحرَّى الصَّوَابَ‏)‏ والمسألةُ عندنا فيمن عَرَضُه الشَّك أَوَّلَ مرةٍ أَنْ يَسْتَقْبِلَ، وإلا تَحَرَّىَ وعَمِلَ بِغَلَبَة الظنِّ، وإلا أَخَذَ بالمُتَيَقَّنِ وهو الأقل وتفصيله في الفقه، وعند الشافعية يَأْخُذ بالأقل في جميعِ الصُّورِ‏.‏

ثمَّ اختلفَ مشايخُنَا في إيجابِ سجدةِ السَّهْوِ في الصَّورَة الثانية، ففي «الجوهرة النَّيِّرَة» و «رَدِّ المحتار» نقلا عن «السراج الوهاج» أنَّه لا يسجدها وهو الأقرب، والأكثر إلى أنَّه يسجدها كما في «الفتح»‏.‏ وأما في الصورة الثالثة فيسجد للسهو قطعًا‏.‏

أما الأحاديث فهي أقعد على مذهبنا لأنها وردت بالاستقبال كما في «المصنَّف» لابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، والتَّحرِّي والأخذ بالأقلِ جميعًا كما عند مسلم، فَعَمِلْنَا بِمَجْمُوعِهَا بخلافِ الشافعية فَإِنَّهم لم يَعْمَلُوا إلا بالثالث، وأوَّلوا في سائرها فقالوا‏:‏ إنَّ تَحَرِّي الصَّوَابِ هو الأَخْذُ بالأقلِ فأرجعوه إلى الصورةِ الثالثة‏.‏

قلنا‏:‏ لا تساعده اللغة أصلا فإنَّ التَّحَرِّي هو أَنْ يَرَى غَلَبَةَ ظَنِّه، ولا يجوز إلغاء هذا التعبير الجديد وإرجاعه إلى الثالث، فإن التَّحَرِّي بهذا المعنى شيء مفيد في نفسه، سيما إذا علمنا أَنَّ الشَّرْعَ قد اعتبر بالغَلَبَةِ في غَيْرِ واحدٍ مِنَ الأبواب، فما الوجه في أَنْ لا نَعْتَبر هذا النوعَ من ههنا أيضًا‏؟‏ ويلزم على مذهبِهم إخلاء النوعِ عن حُكْمِه بالكُلِّية، وذا غيرُ جائز‏.‏

401- قوله‏:‏ ‏(‏ثم ليُسَلِّمْ‏)‏ وفيه سَجْدَتَا السَّهْو بعد السلامِ، وفي «الهداية» أَنَّ الخِلاف فيه خلاف الأَفضلية نعم عبارةٌ «التجريد» موهمةٌ شيئًا‏.‏

قلتُ‏:‏ وينبغي الأَخذ بما في «الهداية» وإنْ كانت مرتبة القُدُوري أزيد لأنَّ العمل برواية «التجريد» يُوْجِبُ مخالفةَ أكثر الأحاديث الصِّحاح- أما حجةُ الحنفية فأقول‏:‏ إنَّ الأحاديث القولية تُؤَيِّدُنا خاصةً، كما عند أبي داود‏:‏ «مَنْ شَكَّ في صَلاتِهِ فَلْيَسْجُد سجدتين بعد ما يُسَلِّم»، وعند البخاري عن عبدِ اللَّه بنِ مسعود‏:‏ «ثم ليُسَلِّم ثم ليسجد سجدتين»‏.‏

بقي الفِعْلُ فقد ورد بالنَّحْوَين ولا بأس، فإِن الخلاف في الأفضلية لا غير‏.‏

ثم اعلم أنَّ وقائعَ سَهْو النَّبي صلى الله عليه وسلّم أربعة، حَرَّرَها الشيخ تقي الدين ابنُ دقيق العيد‏.‏

ثنتين منها عن البخاري‏.‏ الأولى‏:‏ جعل الظهر خمسًا‏.‏

والثانية‏:‏ جعل الرباعية ثنائية‏.‏

والثالثة‏:‏ ما عند أبي داود ترك القَعْدةَ الأولى‏.‏

والرابعة‏:‏ أنَّه سهى عن قَراءَةِ آيةٍ‏.‏ في صلاته، فلما انصرف قال لابنِ مسعود رضي الله عنه‏:‏ «هل كنت في الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فهلا ذكرتني»‏.‏

أقول وهناك واقعةٌ خامسة أيضًا وهي‏:‏ أنَّه سَلَّم مَرَّةً على القَعْدَةِ الأولى من المَغْرب، ثم إنَّ البُخَاري أخرج حديث السَّهْو مرارًا واستنبط منه مسائلَ عديدة، وتَرْجَم تراجِمَ مختلفة، ثم لم يترجم عليه بجوازِ كلامِ النَّاسي فَدَلَّ على موافقَتِه للحنفية‏.‏

باب‏:‏ مَا جَاءَ فِي القِبْلَةِ، وَمَنْ لا يَرَى الإِعَادَةَ عَلَى مَنْ سَهَا فَصَلَّى إِلَى غَيرِ القِبْلَة

وقد عَلِمْتَ فيما مَرَّ أَنَّ البخاري وَسَّعَ في عِبْرَةِ الجهل والنِّسْيَان كثيرًا، فلو صلى ناسيًا إلى غير القِبلة أو ساهيًا جازت صلاتُهُ عندَه، وهكذا المسألةُ عندَهُ فِيْمَنْ صلى في ثوبٍ نَجِسٍ‏.‏

لم يُوَسِّع فيه الحنفية بمثله، نعم تحملوا الانحراف عنها فيما إذا سبقه الحَدَث فانصرفَ للوضوءِ بِشَرْطِ أن لا يخرج مِنَ المسجد، فقد اعتبروا الانحراف في الجملة إلا أنَّهم لم يُجَوِّزوا فيه الإِطلاق‏.‏

402- قوله‏:‏ ‏(‏في ثلاث‏)‏ وليس في تَخْصِيصِ العددِ بالثَّلاث ما يَنْفِي الزيادة، وقَدْ عدَّ المحدِّثون موافقاتِهِ إلى اثنين وعشرين كما في القَسْطَلاني‏.‏

402- قوله‏:‏ ‏(‏أن يبدله أزواجًا‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وبحث اللغويون في الفَرْقِ بين الإبدال والتَّبْدِيْلِ والتَّبدل وأنَّ المتروك فيها ما هو، والمأخوذ ما هو، وتَعَرَّضَ إليه شارح الإِحياء في مسألة تبديل الضاد بالظَّاء في الصلاة‏.‏

404- قوله‏:‏ ‏(‏الظُّهْرَ خَمْسَا‏)‏ ويلزمُ فيه القُعود على الرابعةِ عندنا، وإلا تتحول فَرِيضَتُهُ نفلا ولا حاجةَ إليه على مذهب الشافعية‏.‏ والمسألة اجتهادية ليست فيها نصوص لأحد‏.‏

ولنا‏:‏ تفقه قوي، وهو أَنَّ الصلاةَ في الدين المحمَّدي ثنائية، ورباعية، وثلاثية، ومعلوم أَنَّ مثنوية الصلاة ورباعيتها، لا تتقوم إلا بالقَعْدة، فكونها ثنائية أو غيرها مِنْ متواترات الدِّين‏.‏ وقد عَلِمْتَ أَنَّها تَتَوقف على القَعْدَةِ فلا بد أَنْ تكونَ فريضة كما قيل‏:‏ إنَّ مقدمة الواجب واجب‏.‏ ولذا قال الحنفية‏:‏ إِنَّ ما دون الرَّكعة مَحَلٌ للرفض بخلاف الرَّكعة التامة، فإنَّها من متواترات الدِّين بمعنى كونِها أمرًا معتدًا بها فلا تكون محلا للرفض؛ لأنَّه يُوجب نقض المتواتر‏.‏ ثم إنَّ النَّوويَّ قد أَقَرَّ أَنَّ هذه الواقعة قُبَيل بدر، فثبت أَنَّ النَّسْخَ في الكلام ثابتٌ عند الكلِّ وإنِّما الاختلاف في تاريخه، وعلى هذا فالاعتذار به في حديث ذي اليدين ليس لِنَفْع المذهب فقط بل هو أمرٌ ثابتٌ عند الكل، أما أَنَّه متى هو فهو أمرٌ مختلفٌ فيه‏.‏

404- قوله‏:‏ ‏(‏فَثَنَى رِجْلَه وَسَجَد سجدتين‏)‏ فإنْ قلتَ‏:‏ إذا كانت تلك عند جَواز الكلام في الصَّلاة فَلِمَ سَجَدَ فيها للسهو‏؟‏

قلت‏:‏ لتخلل ما ليس مِنْ أجزاءِ الصَّلاةِ في الصَّلاة‏.‏ وهذا بابٌ جديد لم يَذْكُره العلماء، ولعلَّ المسألةَ إذ ذاكَ عدمُ فسادِ الصَّلاة بهذه الأشياء وكفاية سجود السَّهْو عنها‏.‏

واعلم أَنَّ الرواة اختلفوا في ذِكْرِ سَجْدَتي السهو في واقعة ذي اليدين، فبعضُهم أثبتهما، والبَعْضُ الآخر نفاهما، وهذا الخِلافُ عندي راجعٌ إلى الاجْتِهَادِ لا في نَقْلِ الواقع، فَمَنْ نَظَرَ إلى سُوءِ الترتيبِ، وَفَكَّ الرَّبْط بين أَجْزَاءِ الصَّلاةِ، زَعَم أنَّه سجد للسهو جبرًا لهذا النقصان‏.‏ ومن نفاهما رأى أنَّ الواقعةَ قَبْلَ النَّسْخ، والكلام جائز فلا حاجة إلى سجود السهو‏.‏

والحاصل‏:‏ أَنَّه لم يَكُن عند الفَرِيقين نَقْلٌ خصوصي اعتمدوا عليه، ولكنَّهم إذا سَرَدوا القِصَّة ذَكَرُوا السُّجُود أو نفوها حسب ما أدى إليه اجتهادهم، وهذا هو وجه اختلافهم في ذِكْرِهَا وحَذْفها عندي، والله الملهم للصواب‏.‏

باب‏:‏ حَكِّ البُزَاقِ بِاليَدِ مِنَ المَسْجِد

وحَمَلَه الشارحون على أنَّه حَكَّهُ باليد دون الآلة‏.‏ قلتُ‏:‏ ومعناه عندي أنَّه حَكَّه بيده الكريمة أي لم يأمر غيرَهُ به سواءٌ كان باليد أو بغيرِهَا‏.‏

وفَرَّقَ اللغويون بين النُّخَامة والنُّخَاعة‏.‏ فقيل‏:‏ إنها بالميم من الرأس، وبالعين من الصدر، وفي «شرح الأسباب» أنَّ النُّخَامة ما خرج من مَخْرَجِ الخاء، وما خرج مِنْ مَخْرَج العين فهو النُّخَاعة ثم المُخَاط ما خَرَج مِنَ الأَنْف وما خَرَجَ من الفَمِ فهو البصاق‏.‏

405- قوله‏:‏ ‏(‏أو إنَّ ربه بينَه وبين القِبْلَة‏)‏ وهو نحو مِنَ التجلِّي واختلف في أنَّه مستمر أو مقتصر على حالة المُناجاةِ فقط، وفي عبارة أبي عمرو وأنَّه مستمر كالاستواء، والمعية، والأقربية، ونَقَلَهُ الحافظ رحمه الله تعالى في «الفتح» وَجَنَح إليه أيضًا‏.‏

قلتُ‏:‏ وَخَطأ الحافظ رحمه الله تعالى أو غَفَل ولم يدرِ أنَّه يكون نافعًا للحنفية في مسألة الاستقبال والاستدبار، لأنَّه إذا نَهَى عن البُزَاق تِجَاه القِبلة لهذا، فما ظَنُّك بالاسْتِقْبَال والاسِتدبار عند الغَائِطِ وقد مر أنَّ عُمَرَ بنَ عبد العزيز لم يكن يَبْزُق إلى القِبْلَةِ مطلقًا‏.‏

قلتُ‏:‏ وعندي في الاستدلال منه نظر بَعْدُ لأَنَّه وإنْ وَرَدَ فيه الإطلاق في عِلَّةِ أحاديث لكنَّه مقيدٌ في بعض الروايات بحالة الصَّلاة، وحينئذٍ يَقْتَصِر النَّهْي على حالة الصَّلاةِ فقط، نعم لو ثَبَتَ دوامُ هذا التَّجَلِّي لكان حُجَة لنا قطعًا‏.‏ وراجع لحقيقة التجلي أواخر «نيل الفرقدين» وهي مِنْ أَصْعَب مسائل الصوفية رحمهم الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولكن عن يساره‏)‏ وحَمَلَهُ النُّوويُّ على خارجِ المَسْجد، أما إذا كان في المَسْجِد فإِنَّه لا يَبْصُق إلا على طَرَفِ ثَوْبِهِ، وقال في شرح الحديث‏:‏ إِنَّ الحديث وَإِنْ وَرَدَ في المسجد ابتداءً لكنَّه انتقلَ عند ذِكْرِ البُصَاق إلى خارج المسجد انتهاءً، واستدل عليه بقوله‏:‏ «أنَّ البُصَاق في المسجدِ خطيئة وكفارتها دفنها»‏.‏ فإذا كان البُصَاق في المسجدِ خطيئةً في نظر الشارع كيف يأذن هو به‏.‏ ومعنى الحديث عندي‏:‏ أنَّ البُصَاقَ في المسجد خطيئةٌ وعليه أَنْ يُكَفِّر عنها، كما أَنَّ الزِّنا، والخمرَ، وقَتْلَ الصيدِ في الحرم محرَّمات وخَطَايَا، وإذا ارْتَكَبَ فعليه عُقُوبَتها‏.‏

وذهب القاضي إلى أَنَّ أَوَّلَ الحديث لِمَّا ورد في حق المسجد، فالبُصَاق أيضًا فيه‏.‏ وحَمَلَ حديثَ الخطيئة على ما لم يُرِدْ دَفْنَها، فإِنْ أَراد دَفْنَها فليس بخطيئة‏.‏ والذي يَظْهر عندي أَنَّ التضييقَ فيه أَوْلَى، وما يتوهم فيه التوسيع مِنْ بَعْضِ الألفاظ يُخَالِفُه ما عند مسلم وأبي داود مِنْ قَيد المُبَادَرَة، فليحذر عن الأَوَامِر المُطْلَقَةِ الوارِدَةِ في هذا الباب ولا يَحْمِلها على إطلاقها‏.‏ وَنَقَلَ أبو داود عن أحمد أَنَّه كان يَبْصُق بإخراج الوجه عن الغُرْفَة إن احتاج إليه في الصلاة‏.‏

وحاصل أحاديث البصاق‏:‏ أَنَّ البُصَاقَ في الصَّلاةِ قَبِلَ القِبْلَةِ مما يَغِيظُ النَّبي عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ويُفْضِي إلى إِعْرَاضِ ربِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَكِنْ ينبغي أنْ يُكَفَّ عن إطلاقِ لَفْظِ المعصية‏.‏

‏(‏مَنَاطُ النَّهي عن البُصَاقِ في الصَّلاةِ قِبَلَ القِبْلَة‏)‏

وقد اخْتُلِفَ في الشروحِ في مناطِ النَّهي‏.‏

فقيل‏:‏ شُغْل المُنَاجَاة، وقيل‏:‏ احترامُ جِدَارِ القِبْلَةِ، وقيل‏:‏ احترامُ المَسْجد، وقيل‏:‏ احترامُ كاتب الحسنات، وقيل‏:‏ احترام الصلاة، وغيرها، وكلها مأخوذةٌ من النُّصوص إشارة ودِلالة‏.‏ فَالأَوْلى عندي أَنْ يُقَال‏:‏ إنَّ المجموع مَنَاطٌ، وإِنَّ الوصفَ المُؤَثِّر فيه كونُ المُصَلي على أَحَسَنِ هيأةٍ عند مناجاتِهِ رَبَّهُ، فإِنْ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الجمال، والبُزَاقَ فيها يخالُفها‏.‏ ثمَّ الترتيب في البُصَاقِ كما عند أبي داود‏:‏ «فلا يَبْزُقَنَّ أَمَامَهُ ولا عن يمينه ولَكِنْ عن يسارِهِ إِنْ كان فَارِغَا أو تَحْتَ قَدَمِه اليسرَى ثم لِيَقُلْ به»‏.‏ وقد عَلِمْتَ أَنَّه فيما أمكن الدفن، وإلا فيبصُق على ثوبه وَيَرُدُّ بعضَهُ ببعضٍ لإعدام الجِرْمِ، وعند الترمذي جانب الخلف أيضًا‏.‏ فإنْ قلت‏:‏ إنَّ في جانب اليسار أيضًا ملكًا، قلت‏:‏ والله قادر على أَنْ يجعلَها على الشيطانِ في هذا الجانب‏.‏

باب‏:‏ حَكِّ المُخاطِ بِالحَصى مِنَ المَسْجِد

باب‏:‏ لا يَبْصُقْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الصَّلاة

باب‏:‏ لِيَبْزُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى

باب‏:‏ كَفَّارَةِ البُزَاقِ فِي المَسْجِد

باب‏:‏ دَفنِ النُّخَامَةِ فِي المَسْجِد

وهذا الذي دعا الشارِحِين إلى حَمْلِ الترجمةِ السَّابقةِ على الحَكِّ بِنَفْسِ اليد، لأنَّه لا يصح التقابل بين هاتين الترجمتينِ إلا بهذا المعنى، فالترجمةُ الأولى للحَكِّ باليد، وهذه للحكِّ بالحصى، يَغْنُون به أنَّ الحَكَّ ثَبَت بالواسِطَة وبدون الواسطة، وقد مَرَّ معنى أنَّه أَرَادَ بالترجمة السَّابقةِ الحَكَّ بنفسِهِ أي لا بِأَمْرِهِ رَجُلا آخر سواء كان باليدِ أو بِآلةٍ، والحَكُّ بالحصى وإِنْ كانَ دَاخِلا تحت الترجمةِ السَّابقةِ إلا أَنَّه لمَّا كان عنده فيه حديثًا مستقلا أَرَادَ أنْ يُتَرْجِمَ عليه أيضًا كذلك، وهذا مِنْ دَأْبِ المصنِّف رحمه الله تعالى أَنَّه إذا كانت عندَهُ جزئيات مِنْ بابٍ واحدٍ يُتَرْجِم على كلِّ واحدٍ منها إحصاء لها، ثم يُتَرْجِم على كلٍ بما نَاسَبَ لفظَهُ‏.‏

‏(‏وقال ابن عباس رضي الله عنه‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ قال الحافظُ رحمه الله تعالى‏:‏ أَشَارَ به البخاري إلى أَنَّ العلَّةَ العظمى في النَّهي احترامُ القِبْلَةِ لا مجرد التأذي بالبُزَاق، فإِنَّه وإنْ كان عِلَّةً أيضًا لكِنْ احترامُ القِبْلَة فيه آكد، فلهذها لم يُفَرَّق فيه بين رَطْبٍ ويابس بخلاف ما عِلَّةُ النِّهي فيه مُجَرد الاستقذار فلا يَضُرُّ وطء اليابس منه‏.‏ انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏القَذَر‏)‏ وهو ما يَسْتَقْذره الإنسان طبعًا فهو أعمُّ من النَّجَاسَةِ وغيرها، ثمَّ إِنَّه لا تُغْسَلُ اليدُ بمسِّ النَّجَاسَةِ اليابسةِ عندنا‏.‏

وبيان المناسبة بين الأَثَرِ والترجمةِ عندي‏:‏ أنَّ البُصَاقَ إذا كان رَطْبًا فاغسله وإلا فلا بَأْسَ به لأَنَّه طاهر، وإِنْ كان نجسًا فكذلك أيضًا، فإنَّ بعضَ السَّلَفِ ذهبوا إلى نجاستِهِ كما مر‏.‏

باب‏:‏ إِذَا بَدَرَهُ البُزَاقُ فَليَأْخُذْ بِطَرَفِ ثَوْبِه

وليس فيه عِنْدَهُ حديثٌ على شرطه بل حديثه عند أبي داود ومُسْلِم، ولَكِنْ مِنْ دَأْبِ المصنِّف رحمه الله تعالى أَنَّه إذا أَرَادَ أَنْ يُفيدَ بمسألةٍ لا يكونُ لها حديثٌ عنده وَلَكنَّه يكونُ في الخارج يُتَرْجِمُ بها، وَيَسْتَدِلُ عليها بحديثٍ واردٍ في الباب بِأَدْنَى مناسبةٍ، ويكونُ نَظَرُهُ إلى هذا الحديثِ الذي وَرَدَ فيه صراحةٍ في الخارج‏.‏

باب‏:‏ عِظَةِ الإِمَامِ النَّاسَ فِي إِتْمَامِ الصَّلاةِ وَذِكْرِ القِبْلَة

واعلم أَنَّ مِنْ دَأْبِ المصنِّف رحمه الله تعالى أَنَّه إذا أَخْرَجَ حديثًا مِنْ نوعِ سِلْسِلَةٍ ثمَّ يجِد فيه مسألةً أخرى من غَيْرِ هذه السِلْسِلَةِ يُتَرْجِمُ بها أيضًا في هذه الترجمة بعينها، فتختلَّ الترجمة بحسب الظَّاهر لاشتمالها على حُكْمٍ لا يتعلق بتلك السِلْسِلَةِ- وأُسَمِّيهِ إنجارًا- لأنَّه يُريد أَنْ يفرغ عنها في تَرْجَمةٍ واحدةٍ، فيترجم بها اختصارًا، وإنْ لم يكن مِنْ هذا الباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خُشُوعُكُمْ‏)‏ قيل‏:‏ الخُشُوعَ في الجوارِح، والخُضُوعُ في القلب‏.‏ قلت‏:‏ بل الخُشُوع أيضًا في القَلْبِ أيضًا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ‏}‏‏(‏الحديد‏:‏ 16‏)‏‏.‏ وكذلك في الأَصْوَاتِ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ‏}‏‏(‏طه‏:‏ 108‏)‏‏.‏ وَنَسَبَه إلى الجمادات أيضًا ‏{‏وَمِنْ ءايَتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْرْضَ خَشِعَةً‏}‏ ‏(‏فصلت‏:‏ 39‏)‏ فالمناسب فيه استقراءُ القرآن‏.‏

ثم الخُشوعُ مُسْتَحَب مَعَ كونِهِ رُوحًا للصَّلاةِ، ولا يُمْكن أَنْ يكونَ فرضًا وإلا لَبَطلَتْ صلوات أَكْثَرِ الأمة فما نُقِلَ عن بعضِ الصُوفية أَنْسَب بحالهم‏.‏

418- قوله‏:‏ ‏(‏إني لأراكم‏)‏ وراجع ما في الهامش عن أحمد رحمه الله تعالى‏.‏

419- قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا يحيى بنُ صالح‏)‏ وهو الذي كان عديلا للإمام مُحمَّد رحمه الله تعالى في الحج وقد مرَّ تذكرته‏.‏

باب‏:‏ هَل يُقَالُ مَسْجِدُ بَنِي فُلانٍ‏؟‏

والجمهورُ على الجوازِ، ونُقِلَ عن الحَجَّاح عاملِ بني أُمَيَّة أَنَّه كان يُخَالِفُ فيه، وكان يَكْرَهُ أَنْ يُقال مسجدُ بني فلان‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الْمَسَجِدَ لِلَّهِ‏}‏‏(‏الجن‏:‏ 18‏)‏ وهو أَظْلَم هذه الأمة‏.‏ وعنْ أحمد رحمه الله تعالى في روايةٍ أَنَّه كَفَّرَهُ كما كَفَّرَ يزيد أيضًا، وفي الترمذي أنه قَتَل مِنْ الصحابَةِ والتابعين مائة ألف وأربعًا وعشرين ألفًا‏.‏

باب‏:‏ القِسْمَةِ، وَتَعْلِيقِ القِنْوِ فِي المَسْجِد

يريد أَنْ يُفَصِّل في الأفعالِ التي وَرَدَتْ في المسجدِ مِنْ غيرِ جِنْسِ الصَّلاةِ والأَذْكَارِ وَوَسَّعَ كُلَّ التَّوسِيع، فَأَثْبَتَ القِسْمَةَ، وَكَرِهَ فقهاؤُنا الكلامَ والطعامَ في المسجد فلعلهم لا يحبون القِسْمة فيه أيضًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتعليقِ القِنْو‏)‏ ولم يُخَرِّج له حديثًا، وهو ثابت في الخارج عند الطحاوي وغيره، وكان هذا على عادةِ العربِ أنهم كانوا يُعَلِّقون الأَقْنَاءَ، فَإِذَا نَضِجَتْ قَسَّمُوها على أصحابِ الصُّفَّة، ثمَّ إنْ كان عُشرًا أو صدقة غيره، فسيجيء البحث فيه في كتاب الزكاةِ بِقَدْرِ الضرورة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والاثنان قِنْوَان‏)‏ يعني أنَّه تثنيةٌ وجمعٌ، والفَرْقُ أَنَّه بالتَّنْوِينِ جمعٌ، وبكسر النون تثنية‏.‏

421- قوله‏:‏ ‏(‏وقال إبراهيم‏)‏‏.‏‏.‏ إلخ وإنَّما لأنَّ في إبراهيم لينًا ولِعَدم الاتصالِ أيضًا‏.‏

قلتُ‏:‏ وما أخرجَ المصنِّف رحمه الله تعالى مِنَ الأحاديث في إثباتِ أفعال غير الصَّلاةِ في المسجد كلُّها واردة على الوقائع على سبيلِ القِلَّة، ولعلَّ الفقهاء أيضًا لا يُنْكِرُونها، وإنَّما الكراهةُ فيما إِذَا اعتادَ بها، أَمَّا إذا كانتْ مرةً أو مرتين فهي جائزةٌ عِنْدَهم أيضًا، فإِنْ أَرَاد المصنِّف رحمه الله تعالى مِنْ هذه الترَاجِم ثبوتَ هذه الأفعالِ فقط فهو مُسَلَّم ولا يخالف الفقهاء‏.‏ وإِنْ أراد به التوسيع في أحكامِ المَسَاجِد فلا يَثْبت مُدَّعَاهُ مِنْ هذه الأحاديث، لأَنَّك قد عَلِمتَ أَنَّها لا تَدُلِ على أنَّ المَسَاجِدَ كانت تُفْعل فيها هذه الأفعال كأنَّها مهيأة لها، وإذا كان المستحبُّ في النَّوافِلِ أَنْ تُصلَّى في البيوتِ فما بالُ هذه، وسيجيءُ في هذه الأبوابِ ما هو أفيد منه‏.‏

حكاية مَرَّ سفيانُ الثَّوْرِيّ على أبي حنيفة رضي الله عنه وهو يُدَرِّس رافعًا صوتَهُ فَأَنْكَرَ عليه فاعتذرَ منه أَنَّهم لا يَفْهَمُون بِدُونِهِ‏.‏

والقضاءُ جائزٌ عندنا في المسجد لأنَّه عبادة، ومنعه الشافعية‏.‏

واختلفوا في التدريس، فقال الحنفية‏:‏ إن كان بدون الأجرة جازَ وإلا فلا‏.‏

421- قوله‏:‏ ‏(‏مِنَ البَحْرَيْن‏)‏ وكان مئة ألف‏.‏

421- قوله‏:‏ ‏(‏إذا جاءَه العبَّاس‏)‏ وادَّعى الطَّحاوي أَنَّه أَسْلَم قَبْلَ الهجرةِ إلا أنَّه كان يَخْفَى به، ثُمَّ أَعْلَنَ بِهِ في فتحِ مَكَّة‏.‏

421- قوله‏:‏ ‏(‏وثَمَّ منها دِرْهَم‏)‏والتاء في ثَمَةَ لِتَأْنِيث اللفظِ لا لِتأْنِيْث المُسَمَّى‏.‏ أقول وَأَتَرَدد في أَنَّ تَقْسِيم هذا المالِ ونحوِهِ كان في المَسْجِدِ لِمَا ذَكَرَهُ السَّمْهُودي‏:‏ أَنَّ قِبْلَة المسجدِ كانت أَوَّلا نحو بيتِ المقْدِسِ، ثُمَّ إذا نَزَل التَّحْويل صارَتْ في الجانب المُقَابِلِ وَجَعَلت تلك مُسْقَفَةً والأولى صفة‏.‏ وفي كُتُبِ الفقهِ أَنَّ إِخْرَاج جزء من المسجد منه جائز عند الضَّرُورَة، وحينئذٍ جاز أَنْ تَكُون التوسيعات التي نَقَلَهَا المصنِّف رحمه الله تعالى كلها في الحصةِ الأولى وهي الصِّفة وكانت تُدْعَى مسجدًا وإنْ لَمْ تَبْقَ مسجدًا النظر الفقهي، لكن ما له وللرواة فَإِنَّهم يتكلمون بحسب العُرْفِ ولا حَجْرَ في إطلاقِ المَسْجِد عليها عرفًا‏.‏ وصرح الذهبي أَنَّ الصُّفَّة كانت مِنْ أَجْزَاء المَسْجد ثُمَّ أُخْرِجت عنها فلا بأس إذن في ذلك الإِطلاق، وبعد هذا التحقيق لا يَتُم ما رَامَهُ المصنِّف مِنْ وجهٍ آخر كذا ذَكَرَهُ السَّمْهُودي‏.‏ وهذا الذي كنا نريد إفادتك به فَإِنَّه جَوابٌ جُمْلي عن جملةِ ما تمسك بهِ المصنف رحمه الله تعالى على أَنْ نقول‏:‏ إنَّ هذا المال إنَّما جِيءَ به في المَسْجِد، لأَنَّ بيتَ المالِ لم يكن بُنِيَ بَعدُ، ولم يَكُن النبي صلى الله عليه وسلّم يُحب أَنْ يذهب بِحُطَام إلى بيتهِ، وكان في وَضْعِه في بيتِ بعضِ الصحابةِ رضي الله عنهم مظِنَّة للوَسْارُس، فلهذه الاحتفافات أمر بِوضْعِهِ في المسجد ثم قَسَّمه هناك، فهل يُنَاسِب بعده أَنْ يَطَّرِد عليه أو يَقْتَصر على موضعه، ذلك أَمرٌ كفل إلى عدلِك وفصْلِك‏.‏

باب‏:‏ مَنْ دَعَا لِطَعَامٍ فِي المَسْجِدِ وَمَنْ أَجَابَ فِيه

وكان عندَه فيه حديثٌ فَتَرْجَم عليه لئلا يَخْلو عن فائدة‏.‏

باب‏:‏ القَضَاءِ وَاللِّعَانِ فِي المَسْجِد

وقد مر الكلام فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واللعان‏)‏ وإنَّما سَمَّاهُ لبيان أَنَّه هل يجوز مِثْلُه في المسجد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بين الرجال والنساء‏)‏ وإنَّما ذَكَر النِّساء لإِثبات حُضورِهِنَّ في المسجد ويُخْرَجُ بهنَّ عند إقامة الحدود‏.‏

423- قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الرَّزاق‏)‏ وهو معاصر المصنِّف إمامُ صنعاء اليمن لم يُلاقه البخاري وقد كان سافرَ إليه فسمع بوفاته في الطريق‏.‏

باب‏:‏ إِذَا دَخَلَ بَيتًا يُصَلِّي حَيثُ شَاءَ، أَوْ حَيثُ أُمِرَ، وَلا يَتَجَسَّس

حيث شاء أي الداخل أَوْ حيث أَمَر أي صاحبُ البيت، قال الشارحون‏:‏ إنَّ «أو» للتنويع وليس للشك‏.‏ قلت‏:‏ والمترْجَم به هو في الحقيقة قوله‏:‏ حيث أمر، ثُمَّ أَضَافَ حيث شاء مِنْ عنده لئلا يُتوهم الاقتصار عليه فلا تنتظر لدليله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يتجسس‏)‏ فهذا من الآداب أنَّ الرَّجُلَ إذا دَخَلَ بيتًا ينبغي له أَنْ لا يَنْظُر يمينًا وشمالا تجسيسًا‏.‏ وحاصله‏:‏ إنْ لم يكن هناك هتك للستر يُصلي حيث شاء وإلا حيث أُمِر‏.‏

واعلم أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلّم إذا صلى في بيوت أصحابه فتارة سألهم أين يُصلِّي، وتارة لم يسألهم وصلَّى حيث شاء، والوجه أنَّ صَلاتَه صلى الله عليه وسلّم كانت لإِيصاله البركة، فإذا أَرَادها مِنْ قِبَل نفْسِه لم يَسْأَل عنها، وههنا دعى الصحابي وأراد هو أَنْ يُصلي النَّبي صلى الله عليه وسلّم في بيته مكانًا يتخذه مصلى فسأله النَّبي صلى الله عليه وسلّم أَين تُحب أَنْ أُصلي لك‏.‏

فَوَضَح الفَرْق‏.‏

وفي الحديث دَليلٌ على ثبوتِ الجماعة في النافلةِ وهي مع التداعي مكروهة تحريمًا وإلا جازت، ثُمَّ التداعي على عُرف اللغة، ولا تحديد فيه في أصل المذهب وإِنْ عينه المشايخ‏.‏

424- قوله‏:‏ ‏(‏فَصَفَفْنَ‏)‏ والمضاعف إذا كان مِنْ نَصَرَ فهو متعدٍ، وإذا كان من ضَرَبَ فهو لازم وههنا مِنْ ضَرَبَ‏.‏

باب‏:‏ المَسَاجِدِ فِي البُيُوت

وليس لها حُكْمُ المساجد عندنا فيجري فيها التَّوريث وغيره من الأحكام، وفي «المُنْية» أنَّ مَنْ جَمَعَ في بيته يكون تاركًا لفضل المسجد، ولا يعد تاركًا للجماعة، وليست هذه المسألة إلا فيها، وقد ثبتت الجماعات في البيوت في زمن أمراء الجور وعند أعذارٍ أخرى‏.‏

425- قوله‏:‏ ‏(‏محمود بن الربيع‏)‏ وهذا هو الصحابي الذي ضَجَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلّم وقد مَرَّ في العلم‏.‏

425- قوله‏:‏ ‏(‏أَنْكَرْتُ بصري‏)‏ وعند مُسلم‏:‏ أصابني في بَصَري بعض الشيءِ، فَدَلَّ على أَنَّه لم يكن بَلَغَ العَمَى إذْ ذاك‏.‏ ثُمَّ إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم رَخَّصَ عِتْبَان بن مالك بعدمِ حضورِ الجماعة ولم يُرَخِّص به ابنَ أَمِّ مَكْتُوم، فقيل في وجهه إنَّ ابن أم مَكْتُوم كان أعمى مِنْ بَطْنِ أمه، ومثله لا يلحقه تعب ومشقة في الإياب والذهاب، بخلاف عِتْبان فإنَّ بَصَرَهُ قد ساء في آخره، وقد علمت من حالِ تَيقُّظ ابن أم مكتوم فإنَّ بلالا رضي الله عنه قد كان يُؤذن قَبْل وقته بخلافه، وقد نُقِل عن الشَّاطِبي أَنَّه كان يذهبُ مَرةً للحجِّ فمرَّ من تحت شجرةٍ فقيل له‏:‏ اخفض رَأْسَك لا يصيبكَ الغصنُ ففعل، فلما جاء هناك مرَّةً أخرى بعد خمس وأربعين سنة خَفَضَ رَأْسَهُ فَسُئِلَ عنه، فقال هناك شجرة، فقيل له ليست هناك شجرة ولا شيء، فَنَزَل الشَّاطبي مِنْ مَرْكَبه وَزَعَم أنَّه ساء حِفْظه فلا ينبغي له رواية الحديث، فَدَعى الناس عن هذا المَوْضِع وَسَأَلهم عن الشَّجرة فقال له شيوخهم‏:‏ إنَّه كان به شَجَرة ولكنَّها قُطِعَت، فاطمأنَّ به ثُمَّ مضى لحاجته‏.‏ ولذا قُلْتُ إِنَّ معنى ما رُوي عن سُفْيَان حين سأل عن تَرْك ابن عمر رَفع اليدين، فأنْكَرَهُ أي لم يعرفه، فأي بأس فيه إنْ لم يَعْرِفه سُفْيَان فقد عَرَفه الناس وليس معناه أنَّه نَفَاه‏.‏

425- قوله‏:‏ ‏(‏والوادي‏)‏ وهو الذي سال السيلُ منه الرآبِ وبقي الحَصْبَاءُ تَلُوح‏.‏ وهو البَطْحَاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن شِهَاب‏)‏ وهذا تحويل مِنْ آخَرِ السَّنْد على خلاف طريق الآخَرِين، ووجهه أنَّ سائرَ المصنِّفين يُخَرِّجُون جميعَ أسانيدِ الحديث في بابٍ واحد، فيحولون في ابتداءِ الإسنادِ بخلافِ المصنِّف رحمه الله تعالى فإنَّه يَقْطَعُ الحديثَ الواحد في أبوابٍ متفرقةٍ بِحَسَب المناسبات فيكون التحويلُ عندهُ في آخره‏.‏

باب‏:‏ التَّيَمُّنِ فِي دُخُولِ المَسْجِدِ وَغَيرِه

أي التيامنُ وراجع له النَّووي‏.‏

426- قوله‏:‏ ‏(‏في شأنه‏)‏ أي شُغْلِه وترجمته في الهندية دهتدا‏.‏

‏(‏426-‏)‏قوله‏:‏ ‏(‏في طُهُورِه وتَرَجُّله‏)‏ وفي «شرح الوقاية» أنَّه كان عادةً لا عبادةً، وإلا فالمواظبة تُفيد السُنِّية، فَفَرْقٌ بين التعبُد والتعود‏.‏

باب‏:‏ هَل تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الجَاهِلِيَّةِ، وَيُتَّخَذُ مَكَانُهَا مَسَاجِدَ‏؟‏

«اللَّهُمَّ لا خَيرَ إِلا خَيرُ الآخِرَهْ *** فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ»

وعلَّلَه المصنِّف رحمه الله تعالى بقولِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم «لَعَنَ اللَّهُ اليهودَ والنَّصارى اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجد»‏.‏

واخْتَلفوا في وجه تعليله بالحديث‏:‏

فقال الكَرْماني‏:‏ إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم لَمَّا خَصَّصَ اللَّعْنَ باتخاذِ قُبور الأنبياء مساجد وَمَنْ في حُكْمِهم كالصالحين من أمتهم، دلَّ على جواز اتخاذ قبور المشركين مساجد بعد نبشها‏.‏

قلتُ‏:‏ وكأنَّه فَهِم أَنَّ اليهودَ والنَّصارى إنما لُعِنوا لأنَّهم كانوا يَنْبُشونُ قبور أنبيائِهم، ثُمَّ كانوا يبْنُون عليها المساجد فَلُعِنُوا لكونِهِ توهينًا لهم، وهذا المعنى لا يُوجد في نَبْش قُبور المشركين، فيجوز نَبْشُها واتخاذ القبور عليها لانتفاءِ المَنَاط‏.‏

قلتُ‏:‏ هذا باطل قطعًا فإنَّ اليهودَ والنَّصارى لم يفعلوه قَطْ، ولكنَّهم كانوا يَبْنُون عليها المساجد مع إبقائِها على حالِهَا تبركًا بهم، وحينئذٍ مناط اللعنةِ هو التشبه بالعبادة‏.‏

وقال الحافظ رحمه الله تعالى في وجه التعليل به‏:‏ إِنَّ الوعيدَ يتناولُ من اتخذ قُبورَهم مساجد تعظيمًا، وَمَنِ اتخذ أمكنة قبورهم مساجد بِأَنْ تُنْبَش وتُرْمَى عظامُهم، فهذا يَخْتَصُ بالأنبياء ويلحق بهم أتباعهم‏.‏ وأما الكفرة فإنَّهم لا حَرَج في نبشِ قبورهم إذ لا حرج في إهانَتِهم‏.‏

قال الطيبي‏:‏ وأما من اتخذ مسجدًا بجوارِ صالحٍ بحيث يَبْقَى قبرُهُ خارجَ المسجد، وقصد التبرك بالقرب منه لا التعظيم له ولا التوجه نحوه فلا بأس به ويُرْجَى فيه النفع أيضًا‏.‏

427- قوله‏:‏ ‏(‏وما يكره‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وعندي مِنْ تبعيضية في جميع المواضع، وفي «الجامع الصغير» أنَّه لو صلى إلى قبرٍ كُرِه، وإنْ وَضَعَ سُتْرَة بينه وبين القَبْرِ ارتفعت الكراهة‏.‏

427- قوله‏:‏ ‏(‏رَأَيْنَها بالحبشة‏)‏ والهجرةُ إلى الحبشةِ وَقَعت مرتين بل ثلاث مِرَار، ولعلهما ذهبتا إليها في هجرةٍ ولم تكونا دَخَلَتَا في نِكاح النَّبي صلى الله عليه وسلّم فلمَّا نَكَحهما النبي صلى الله عليه وسلّم ذكرتا له القِصَّة‏.‏

428- قوله‏:‏ ‏(‏فَنَزَل أعلى المدينة‏)‏ يعني لم يَدْخل في المدينة وَذَهَبَ مِنْ أعلاه إلى قُبَاء، والأصوب أَنَّه دَخَلَ المدينةَ الثامنة مِنْ ربيع الأول‏.‏

428- قوله‏:‏ ‏(‏بنو عمرو بن عوف‏)‏ فعمرو بنٌ لعوف وليس ابن عوف بدلا عن عمرو، وهكذا يكون في أنساب الجاهلية بخلافه في الإِسلام، فَإِنَّه يكون بدلا ومبدلا منه في الأكثر‏.‏ كعبد الله بن مُبَارك، فإنَّ ابنَ المُبَارك بَدل عن عبدِ الله، وذلك لأنَّه لم يَكُنْ للرُّواة عباءة بِذكْرِ أسمائهم وكِنَاهم بخلاف مَنْ كان أهلَ إِسلام فَإِنَّهم يُذُكَرون بأسمائهم وكُنَاهم ليُعْرَفوا ويُوَقَّروا ويُجَلُّوا بين النَّاس وليس كذلكَ الكُفَّار‏.‏

428- قوله‏:‏ ‏(‏أربعًا وعشرين‏)‏ وفي الهامش أَرْبَعَ عَشْرَة ليلة، قال الحافظُ رحمه الله تعالى‏:‏ وهو الصحيح‏.‏ قلتُ‏:‏ وهذه النُّسخة مِنْ أَجُوَدِ النُّسَخ إلا أنَّ الآفَةَ فيها أنَّ النُّسَخ المرجوحة فيها في الصلب والراجحة في الهامش، ثم إنَّ الجمعةَ فُرِضَت بِمَكَّةَ ولم يَتَمَكَّن النبي صلى الله عليه وسلّم على إقامتِها حتى ورد المدينةَ فأقامَ بها، وفيه استدلالٌ للحنفيةِ رحمهم الله تعالى اشتراط المصر حيث لم يَجْمع النَّبي صلى الله عليه وسلّم في قُبَاء مع قِيامه أَرْبَعَ عَشْرَةَ يومًا، وأولُ جُمُعَةٍ أقامَها حين ورد المدينةَ في محلَّتِهَا كما في الرِّوايات، وأولُ من استدلَّ به المولوي فيضُ عالم الهزاروي‏.‏

428- قوله‏:‏ ‏(‏فجاءوا مُتَقَلِّدِين السيوف‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وهذا على عادتهم عند ذهابهم إلى أَحَدٍ من عُظَمَائِهِم‏.‏

428- قوله‏:‏ ‏(‏حتى أَلْقَى بِفَنَاءِ أبي أيوبَ‏)‏ واعلم أنَّ التبع حين كان وَرَدَ المدينةَ قال له حَبْرٌ من اليهود إنَّ هذه مهاجر خاتم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام فلا تُقَاتَل ههنا، فَبَنَى بيتًا للنَّبي صلى الله عليه وسلّم وَأَوْصَى به أَنْ يكونَ له حين يُبْعَثُ ويهاجِرُ إليها فكان في يد أبي أيوب ولذا بَرَكت به راحلته بفنائه‏.‏

428- قوله‏:‏ ‏(‏ثامنُوني‏)‏ وكان هذا الحائطُ ليتيمينِ في حِجْر زُرَارَة رضي الله عنها فلينظر فيه أنَّه هل يجوز للولي التصرف في عَقار الأيتام أم لا‏؟‏ أما التصرفُ في المنقولاتِ فَأَجَازَهُ الفقهاء، وليراجع الفقه للعقَار، ولعلَّه أيضًا جائز في بعض الصُّور‏.‏

428- قوله‏:‏ ‏(‏فصفوا النَّخْلَ‏)‏ وفَهِمَ الحافظُ رحمه الله تعالى‏:‏ أنَّ النَّخْلَ كانت في الجدار القِبْلي بين اللَّبِنِ والطين، وفَهِمَ السمهوري أنها كانت عمودًا في الحصة المُسْقَفة قِبَل القِبلة‏.‏ قلت‏:‏ وهو الأصوب‏.‏

428- قوله‏:‏ ‏(‏وهو يقول اللهم لا خير‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ قال الأَخْفَش إنَّ الرَجَزَ ليس مِنْ بحور الأشعار، وَعَدَّهُ الباقون منها‏.‏ أقول‏:‏ وما قاله الأَخْفَش قوي، لأنَّ الرَجَزَ من أسماء الجاهلية، وترجمتُهُ في الهندية‏:‏ فقرة بندى- تك بندى وهذا نوع مغاير للأشعار قطعًا، والبُحور في الألسنة كلها خرجت منهم اتفاقًا ثُمَّ دونت بعد، وكان عند التبع شاعرًا يرتجز بعد جميع الشُّعَرَاء، فالرَّجَز غير الشِّعر، ومن قال إنِّه شعر اعتبرَ القصدَ فيه، وارتجازه صلى الله عليه وسلّم لم يَكُنْ عن قَصْدٍ ولم يَثْبُتْ عنه الإِنشاء، نعم ثبت الإنشاد قليلا وربما نقضه أيضًا، فَأَنْشَدَ شِعْرَ شاعرٍ مَرَةً وَنَقَضَهُ، فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ إنَّ الشِّعْرَ هكذا، فقال‏:‏ «إني لست بشاعرٍ»‏.‏

وثبت عنه هذا الشِّعر، وفي إسناده أئمة النَّحْو‏:‏

تفاءَل بما تَهْوَى فلقلما *** يُقال لشيءٍ كان إلا تحققا

ثم إنَّهم اختلفوا أنَّه هل يجوز الاقتباسُ من القرآن كما في قوله‏:‏

أيها النَّاسُ اتقوا ربَّكُم *** زَلزلةَ الساعةِ شيءٌ عظيمُ

وَمَنْ يَتَقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ *** ويَرْزُقْهُ من حيث لا يحتسبُ

فجوَّزَهُ الشافعية رحمهم الله تعالى، وفي ترجمة الحَمَوي أنَّه أنشأ بيتًا ثم تَرْدَّدَ فيه‏:‏

وما حُسْنُ بيتٍ لَهُ زُخْرُفْ *** تَرَاهُ إذا زُلْزِلَتْ لم يَكُنْ

فجاء عند ابن دقيق العيد وكان جارًا له وأنشدَ عليه بيتَهُ، فَذَكَر أنَّ ابنَ دقيق العيد قال له قَبْلَ أَنْ يسأله، إنَّ الكهْفَ أولى من البيت هكذا‏:‏

يا عينُ جُودِي لفقدِ البحْرِ بالدُّرَرْ *** واذر الدموعَ ولا تُبْقي ولا تَذَرْ

فهذه الصُّور كلُّها جائز عند الشافعية رحمهم الله تعالى‏.‏

قلتُ‏:‏ وإني أخْشَى أَنْ أنْشُدَ بالقرآنِ بهذا النَّحْوِ مِنَ الحذف‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةِ فِي مَوَاضِعِ الإِبِل

وقدَ مرَّ هذا البابِ في الأنْجَاسِ وذِكْرُهُ ههنا من حيث كونهُ مُصلَّى ومسجدًا، وفيه تصريح بأنَّ الصَّلاةَ فِي المَرَابِضِ كانت قَبْلَ أنْ يُبنى المسجدِ‏.‏

430- قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا صدقة‏)‏ وهذا راوي فيه حِدةٌّ وشَرَهٌ، حيث جَعَلَ رفع اليدين عَلَمًا لأهل السُّنة والجماعة‏.‏

واعلم أنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى أَشَار إلى الأحاديث الواردة في التفرِقَة بين الإِبلِ والغَنَم وليست على شرطِهِ، لكن لها طُرُقٌ قوية، وفي معظمها التعبير بِمَعَاطِن الإبل، وفي بعضها بمبَارِك الإبل وعند الطبراني مناخ الإبل، وعند أحمدَ مَرَابِض الإبل، فَعَبَّر المصنِّف رحمه الله تعالى بالمواضع لكونِهَا أَشْمَل والمعاطِن أخص، لأنَّ المعَاطِن مواضعُ إقامتها عند الماء خاصة، كذا قال الحافظُ رحمه الله تعالى وفيه وجوه أُخَر أيضًا‏.‏

قلتُ‏:‏ وعندي أنَّه تَرَكَ لفظَ المَعَاطِن لأنَّه ورد النهي عن الصَّلاةِ فيها في غيرِ واحدٍ مِنَ الأحاديث، ويُعْلم مِنْ حديثِ الباب الجواز فيها، فَأَرَادَ أَنْ لا يَرِدَ الإيجابَ على عَيْنِ ما ورد عنه النهي، فَغَيَّرَ اللفظَ وعَبَّرَ بالمواضع، والوجه فيه أَنَّ المَعَاطن مَوَاضِع الألْوَاثِ والأَنْجَاس، ولأنَّها لا يُؤْمَنُ فيها عن إِيذائِهَا بخلافِهَا ههنا، فإنَّه موضِع طمأنينة ولا يخاف منها أيضًا فلم تشمله أحاديث النَّهي‏.‏

باب‏:‏ مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَوْ نَارٌ أَوْ شَيءٌ مِمَّا يُعْبَدُ فَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ تعالى

وكَرِهَ فقهاؤُنا أَنْ يُصلِّي وبين يديه جمرة لأَنَّها يعبدها المجوس، أما إذا كان سراجًا أو غيره فلا كَرَاهَةَ لانتفاءِ المَنَاط، ويُمْكِنُ أَنْ يكون المصنِّف رحمه الله أَرَاد منه التعريض إلى الحنفية‏.‏

قلتُ‏:‏ وما تَمَسَّك به المصنِّف رحمه الله من قوله‏:‏ عُرِضت عليَّ النار» ففي غير مَحَلِّه قطعًا لأنَّه مِنْ أشياء عالَمِ الغيب وهي خارجةٌ عن البحث، والاعتذارُ من جانب المصنِّف رحمه الله أنَّه إذا أَرَادَ أَنْ يُفَصِّل في الاجتهاديات ويُشدد في الأحاديث احتاج لا مَحَالَة إلى اعتبارِ مثل هذه المناسَبَاتِ البعيدة، وإلا فَمِنْ أين توجَد الأحاديث الصريحة للمسائلِ الفقهية‏؟‏ ثم إنَّه قد وَقَعَ له العَرْضُ مرتين في صلاةِ الكُسُوف، وَمَرَّةً كان على المنبر وَأَغْضَبَه النَّاس، فقال‏:‏ «من كان منكم سائلا عن شيءٍ فليسأله»، فقام رَجُلٌ وقال‏:‏ مَنْ أبي‏؟‏ قال‏:‏ «أبوك فلان»، وإنَّما غَضِبَ لأنَّه بُعِثَ لبيانِ الشرائعِ، وسأله النَّاس عمَّا لا تَعلُّقَ له بها‏.‏

باب‏:‏ كَرَاهِيَةِ الصَّلاةِ فِي المَقَابِر

وقد مَرَّت المسألة عن «الجامع الصغير» أنَّه إذَا وَضَعَ بينَهُ وبين القبرِ سُتْرَة لا يُكْرَه وإلا كَرِه، وإنْ كان القبرُ في جوانبه لا يُكْرَه‏.‏

432- قوله‏:‏ ‏(‏اجعلوا في بيوتِكم‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وَجَزم الطحاوي بأنَّ المُرَادَ منها التطوع فقط لأنَّه لمَّا جَعَل الفرائضَ في المساجد فحينئذٍ لا يتناول هذا القول إلا النوافل‏.‏ وحَكَى القاضي عِيَاض عن بعضهم أنَّ مَعْنَاه‏:‏ اجعلوا بعضَ فرائِضِكُم في بيوتِكم‏.‏ قلت‏:‏ وله وجه أيضًا، أما الضابطة فكما ذَكَرَها الطَّحاوي يعني أنَّ الفرائِضَ في المساجد والنَّوافل في البيوت، وما ذَكَرَه هذا البعض محمولٌ على جزئيات غير منضبطة كأن فاتَتْهُ الصَّلاة مع الجماعة أَوْ لم يُصلِّ الإِمام في وقتها إلى غير ذلك مِنَ العوارِض‏.‏

432- قوله‏:‏ ‏(‏ولا تتخذوها قبورًا‏)‏ واخْتُلِف في شرحه على أقوال‏:‏ قيل‏:‏ لا تدفنوا موتَاكُم في البيوت وحينئذٍ لا مناسبة له من الجملة الأولى، فإنَّها في أحكامِ الصلاةِ وهذا في حكم الدَّفن‏.‏ وحاصله‏:‏ مَنْع الدفن في الأبنية، وقيل معناه‏:‏ أَعطوا البيوت حظَّها من الصلوات ولا تجعلوها كالمقابر حيث لا يُصلَّى فيها إلا بالسُتْرَة، فأحالَ على المقابر لكونِهَا معهودةً معروفة بهذه الصِّفة، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا‏:‏ «أَنَّ الأَرض كلَّها مسجد إلا المَقْبَرة والحمام»، وهذا الشرح أَلصق بترجمة المصنِّف رحمه الله وكأنَّه أخذَه من التشبيه يعني كما أنَّ الصلاةَ عند القبرِ مكروهةٌ في الفقه فلا تجعلوا بيوتَكم كذلك، بأنْ لا تصلّوا قريبًا منه أيضًا، ولكن صلُّوا فيها، فتكونُ أبعد شبهًا بالقبور‏.‏ وقيل معناه‏:‏ لا تُعَطِّلُوا البيوتَ عن العبادةِ كالقُبور، إذ الموتى، لا يُصَلُّون في قبورِهم، كأنَّه قال‏:‏ لا تكونوا كالموتَى الذين لا يُصلُّون في بيوتِهم وهي القُبور، وحينئذٍ لا تَبْقَى له مناسبة من ترجمة المصنِّف رحمه الله لأنَّه ليس فيه ذِكْرُ جواز الصلاةِ في المقابر أو المنعِ عنها‏.‏

قلتُ‏:‏ وهو الأصوب في شَرْح الحديث سواءٌ كان مناسبًا لترجمة المصنِّف رحمه الله أوْ لا، لكنَّهُ يُشْكِل عليَّ لأنَّ المحقَّق عندي أنْ لا تُعطَّل في القُبور بل فيها قراءة القرآن والصَّلاة والأذان وغيرها من العبادات، وليراجع لها شرح الصدور للسيوطي رحمه الله‏.‏ والأفعال الأخر أيضًا ثابتة عند أهل الكشف وهم أَدْرَى به فلا ننكره ما لم يرد الشرع بإنكاره صراحة‏.‏

والوجه عندي‏:‏ أَنَّ الأَحْوالَ في القبور مختلفةٌ حسب اختلافِهم في الدنيا، فكما أَنَّ عمل واحد لا يوازي عمل آخر في الحياةِ، فليس عليه اختلاف الأحوالِ بعد الوفاة، نعم مَنْ تَرَكَ الأعمال في الدنيا يتركها في القبور أيضًا، فإنَّه قد تركها إذا كان أحق بها فلا حق له بعد ما لَحِقَ بالأموات وصار ترابًا، وأمَّا مَنْ أحيا ليله وصام نهارَه فله أَنْ يُقِرَّ عينهُ بعبادةِ ربه في القبور أيضًا، وذلك فَضْلُ الله يُؤْتيه مَنْ يشاء، فواحدٌ ينامُ كنومةِ العَرُوس حتى إذا نُفِخ في الصُّور يَمْسح عن عينيه ويقول‏:‏ مَنْ بعثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا، والآخَر تُعرض عليه النَّار غُدُوًّا وعشيًا والعياذ بالله‏.‏ ومِنْ ههنا انحلَّت عُقْدة التَّعارض بين الآيتين‏.‏ وقيل في رفعه‏:‏ إنَّ الحالَ في الآية الأولى حالهم من نفْخَة الصَّعْقة إلى نفخة البَعْث وفي رِوَايةٍ ضعيفة «أَنَّ النَّاس بعد نفخة الصَّعقة يُصعقون إلى أربعين عامًا»، فهذه الغَشْيَة تَشْمَل الكل، وليس حالُهم من الموت إلى نفخة الصَّعْقَة، أما في الثانية فحالُهم مِنَ الموت إلى نفْخَة الصَّعقة، ولا بُعد أَنْ يكون المراد هو هذا‏.‏

ثم اعلم أنَّ هناك عالَمَان‏:‏

الأول‏:‏ ما هو مشهود بأَعيُننا، ومحسوسٌ ببصرنا، ويسمى بعالَم الشهادة‏.‏

والثاني‏:‏ غائبٌ عن حَوَاسِنا وقد علمناه بأخبارِ الشرع، ويسمى بعالم الغيب‏.‏

والشريعة قد تَعْتَبِر الحسَّ أيضًا واقعًا ونوعًا مِنْ نَفْس الأمر، فما عندنا وما نحسُّ به ونشاهدُهُ لا يخلو عن كونه نحوًا مِنَ الواقع ونفس الأمر أيضًا، وحينئذٍ يُمكن أن يَعْتَبر الشارعُ أحكامًا في الحس كأنَّها في الواقع وإنْ كان في عالَم الغيب بخلافِها، ولا بدع فيه فإِنَّه إذا بَنَى أحكامًا على الحسِّ باعتبارِه فهذا صحيح، كما أنَّه إذا بَنَى أحكامًا على الغَيْبِ باعتباره فهذا أيضًا صحيح، نعم إجراء أحكام الغَيْب على الحسِّ، والحسِّ على الغيب قد يُوهم التَرَدُّد، إذا عَلِمْتَ هذا فاعلم أَنَّ القبور في الحسِّ معطَّلَةٌ قطعًا، وحينئذٍ إجْراء الكلامِ عليها كأنَّها خالية عن الأفعال إجراءٌ على ما في الواقع ونَفْس الأمر، وإن كانت في نظر عالَم الغيب غير معطَّلَة، ومشغولة أصحابها فيما فُوِّضَ إليهم من ربهم، وهذا كالعذاب لا يسمعُهُ غيرُ الثقلين فهي معطَّلَة عنها في الحسِّ ومملوءة بها في عالم الغَيْب، وحينئذٍ تَعَطُّلها في الحسِّ لا ينافي عدمها في عالَم الغيب‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّ الشَّرْعَ قَدْ يَمْشِي على محاوراتِهِم وإطلاقَاتِهِم في عُرْفِهم إذا كان في الحسِّ أيضًا كذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا‏}‏ فجريانُها مشهودٌ لا يُنْكِره إلا مكابر، لكنَّه يمكن أَنْ يكونَ كذلك في الواقع أيضًا، ويمكِنُ أَنْ يكون الجَرَيان للفَلك مع ثَبَاتِ الشمس في مكانِهَا لكنَّها لمَّا كانت تجري في الحسِّ نَسَبَهُ إليها، وهذا معنىً صحيح فهل لك فيه رَغْبة رَهْ فيه رأيك‏.‏ ثم في الحديث‏:‏ «النَّوم أخو الموت»، ومعلومٌ أنَّ النَّائِمَ يرى أمورًا، وتَمْضِي عليه حالات تنفى عنها ببعض الاعتبارات وإنْ كانت ثابتة ببعضها فكذلك ههنا، ومزيد الباب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى‏}‏ وله جواب آخر وهو أَنَّ المنفي في الآية هو الإِسماع دون السَّماع، وتقريره أنَّ الآيةَ تَنْفِي السَّماع الذي يترتب على الأسباب، فإن له أسبابًا في الدنيا، فإذا وُجِدَت تلك الأسباب لَزِمَ ترتب السَّماع عليها وليس هكذا في عالم البرزخ، لأنَّ ذلك عالَم آخر، ولا تستوي فيه تلك الأسباب، فالسَّماع فيه إنَّما يَحْصُل متى شاء الربُّ جلَّ وعلا ولمن شاء، ولا يكفي لإِسْمَاعِهم الأسباب التي عندنا فليس في الآية نفيًا له مطلقًا، إنَّما فيها نفيه بالطريق الذي عندنا وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآء وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ‏}‏ ‏(‏فاطر‏:‏ 22‏)‏ وسنتكلم عليه في مواضع البَسْطِ من هذا إنْ شَاء الله تعالى‏.‏

وههنا حديث آخر في السنن وهو‏:‏ «لا تتخذوا قبري عيدًا»‏.‏ وقد حرَّف مرادَه بعض الجهلاء وفهموا أَنَّ معناه لا تجعلوه كالعيد فتأتوه في السَّنة مرة، ومعناه لا تجعلوه كالعيد حفلة سنوية يعني‏:‏ ميلا ميري قبربرنه لكاياكرو‏.‏

فائدة

ولَقَبُ الصوفي ليس من الصُّفة بل هو نِسْبَة إلى الصُّوف، وكان موسى عليه الصَّلاة والسَّلام لبسَه يومَ ذهب إلى الطُّور لأَخْذِ التَّوراة فاستحسَنه ربه في هذا اللباس‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةِ فِي مَوَاضِعِ الخَسْفِ وَالعَذَاب

وفي فقهنا أَنَّ الصَّلاةَ في مواضِع العذاب مكروهةٌ تنزيهًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويُذْكَر أنَّ عليًا‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وهذا عند ذهابه إلى حرب صُفين‏.‏

فائدة

واعلم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم لما مرَّ بديار هود وصالح عليهما الصَّلاة والسَّلام نَهَى أصحابَهُ أنْ يعجِنوا ببئر صالح عليه الصَّلاة والسَّلام، ففعل بعضُهم فأمَره أَنْ يُطعمَه دابتَه، وفيه دليل على الفَرْق بين الحيوان والإِنسان في مثل هذه الأحكام، وما في الفِقه يخالفه شيئًا فليحرره‏.‏

433- قوله‏:‏ ‏(‏لا تدخلوا على هؤلاء‏)‏‏.‏‏.‏ إلخ وهذا النَّهي لمَّا مروا على ديارِ ثمود حالَ توجههم إلى تبوك‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةِ فِي البِيعَة

قوله‏:‏ ‏(‏قال عمر رضي الله عنه‏)‏ وهذا حين فَتَح الشام وَصَنَع له رجل مِنْ عُظَمَائِهم مأدبةً وقال‏:‏ أُحب أن تجيئني فقال له عمر رضي الله عنه‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تمثال‏)‏ مخصوص بصورة الحيوان‏.‏

باب‏:‏ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»

435- 436- قوله‏:‏ ‏(‏لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلّم أي الموت، وحاصله‏:‏ ابتلي بمرضِ الموت‏.‏ واختلفوا في تخريج مثل هذا التركيب، فقال ناظر الجيش النحوي‏:‏ إن مر به معناه أوقع المرور به وقال آخرون‏:‏ بل الجار والمجرور نائب الفاعل، والأول أقرب إلى الفَهم‏.‏

435- 436- قوله‏:‏ ‏(‏اغتمَّ‏)‏ كههنا‏.‏

437- قوله‏:‏ ‏(‏قاتل الله‏)‏ محاورة في معنى لعن الله‏.‏

باب‏:‏ نَوْمِ المَرْأَةِ فِي المَسْجِد

وَيَوْمُ الوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا *** أَلا إِنَّهُ مِنْ بَلدَةِ الكُفرِ أَنْجَانِي

وكَرِهَه الحنفية للرجال إلا لغريبٍ فكيف بالنساء‏؟‏ والوقائع المخصوصة مع الاحتفافات التي كانت بها لا تقوم حجة للإِكْثَار والتوسِعة التي أرادَها المصنِّف رحمه الله تعالى فليقتصر على موردها، إلا أنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى يَتَمَسك من الرُخصِ فيجعلها عزائم مع أنَّ تلك الوقائع كانت لمكان الضَّرُورة، ويُناسب إخمالَها إلا إعمالها، ففي المِشْكَاة‏:‏ أَنَّ رجلين رفعا أصواتَهما في المسجد، فقال لهما عمر رضي الله عنه‏:‏ «لو كُنْتما مِنْ أَهلِ المدينة لَعَزَّرْتُكما أترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ‏.‏ وكتب في عبد الوهاب النَّجْدِي أنَّه كان يَدق الهاون في المسجد‏.‏

439- قوله‏:‏ ‏(‏ولِيدَة‏)‏ وإنَّما يُطلق على الإِماء خاصةً، لأنَّهم كان يُحصِّلُون منها الأولاد بِمِلْكِ اليمين‏.‏

439- قوله‏:‏ ‏(‏سوداء‏)‏ سانولا‏.‏

439- قوله‏:‏ ‏(‏وشَاحٌ أحمر‏)‏ سرخ جراؤ‏.‏

439- قوله‏:‏ ‏(‏سُيُور‏)‏ تسمه‏.‏

439- قوله‏:‏ ‏(‏خِبَاء‏)‏ الخَيْمَة الكبير، والحِفْش الصغيرة منها‏.‏

باب‏:‏ نَوْمِ الرِّجالِ فِي المَسْجِد

قوله‏:‏ ‏(‏رَهْطٌ من عُكْلٍ‏)‏ وهم الذين اجتووا المدينةَ ثُمَّ كان من أمرهم ما كان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكانوا في الصُّفَّة‏)‏ وصَرَّح المصنِّف رحمه الله تعالى في هذه الترجمة أَنَّ الصُّفةَ كانت دَاخِلَ المسجد وقد مرَّ ما فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عبد الرحمن بنُ أبي بكر رضي الله عنه‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وهذه قُطعة من حديثٍ طويلٍ يأتي في علاماتِ النُّبوة في ضِيافة أَضْيَاف، ثُمَّ تأخره عند النَّبي صلى الله عليه وسلّم والحَلِف على عَدَمِ الأَكْلِ، وفيه قصَّة بَركةِ الطعام وهو شابٌ أعزب‏.‏

قلتُ‏:‏ ولا تَمسكَ فيه لأنَّ ابنَ عُمَر رضي الله عنه كان أَحْوَجَ النَّاسِ، وأفقرَ من الغرباء، لم يكن له بيتٌ ولا شيء، فإذا جاز للغريب أن يَنَامَ في المسجد فكيف به‏.‏

441- قوله‏:‏ ‏(‏أين ابنُ عمِّك‏)‏ وهذه مسامحة في النَّسب وليس عند العرب التنقير في الأنساب، وإنَّما تَعلمه أهل الهند مِنَ الهُندُوس‏.‏

441- قوله‏:‏ ‏(‏قد سَقَطَ ردَاؤه‏)‏ والرداء في النهار، والكساء في الليل للحِفْظِ عن البَرْدِ والقَرِّ‏.‏

441- قوله‏:‏ ‏(‏قُمْ أبا تراب‏)‏ وفي الشُّرُوح‏:‏ أنَّه كان في غَزْوَة بُوَاط، وكان عليٌّ رضي الله عنه مُسْتَلْقِيَا تَحْتَ شجرةٍ متلطخًا في التُرَابِ، فقال له أبا تُرَاب، ويمكن أَنْ يَكُون كِلاهما وجهين لِكُنيته، قلتُ‏:‏ ولا تَمَسُّك من هذه الواقعة أيضًا فإنَّه قد مَرّ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم وعلِيَّا كانا مُخْتَصَّين ببعض أحكامِ المَسْجِدِ حتى جاز لهما الاجتياز جُنُبًا أيضًا‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَر

أي في المسجد‏.‏ وقال شمس الأئمة السَّرَخْسِي‏:‏ إنَّها مستحبة عند القُفول من سفرٍ، ولم يكن صلى الله عليه وسلّم يَدْخُل على أُمهاتِ المؤمنينَ حتى يَصْدر عنه الزائرون‏.‏

443- قوله‏:‏ ‏(‏عن جابرٍ رضي الله عنه‏)‏ وهذه واقعة ذات الرُّقاع التي اشترىَ فيها النَّبي صلى الله عليه وسلّم بَعِيرَهُ وهذا الثمن هو ثمن بَعِير جابر رضي الله عنه‏.‏

باب‏:‏ إِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ فَليَرْكَعْ رَكْعَتَين

ونقل ابنُ بَطَّال عن أَهْلِ الظاهرِ وجوبَها، ونَسَبَ إلى البَعْضِ وُجوبَ التهجدِ والضُحى وسُنَّة الفَجْر، فهذه فروضٌ مختلِفة زَادَت على الصلوات الخمسِ، ولكِنْ إذا قال الإِمامُ الأعظم بوجوبِ الوترِ جَلَبوا عليه من كُلِّ جانب وصاحوا‏.‏

444- قوله‏:‏ ‏(‏قبل أَنْ يَجْلِس‏)‏ والعوامّ يُصَلُّونَها بعد الجلوس مع هذا القيد صَراحة‏.‏

باب‏:‏ الحَدَثِ في المَسْجِد

وقد مَرَّ أَنَّ للحنفيةِ فيه قولان، ففي «الكبير» من «الغاية» أنَّه مكروه تحريمًا، وقيل‏:‏ إنَّه مكروه تنزيهًا، ويجب عندي استثناء المعتكِف وإنْ لم يَكُنْ له نقل‏.‏

445- قوله‏:‏ ‏(‏تُصَلِّي على أحدِكم‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وهذا صريحٌ في إطلاق الصَّلاةِ على غيرِ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام وفي التنزيل‏:‏ ‏{‏وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 103‏)‏ وذَهَبَ المُفْتُون مِنَ المذاهب الأربعة إلى هجرِها وهكذا ينبغي، فإنَّ لفْظَ الصَّلاةِ صار شِعارًا للأنبياء عليهم الصّلاة والسلام في زماننا، فلا يُصَلَّى على غيرهم إلا أنْ يكونَ تَبَعًا، وما قِيلَ في جوابِهِ إِنَّ الصَّلاةُ في القرآن بمعنى الدعاء فلغو، لأنَّه لا بَحْثَ لنا عن المعنى، وإنَّما الكلام في إطلاق هذا اللفْظِ وهو موجود، ثُمَّ أَقُولُ إنَّ الصَّلاةَ لفظ مُشْتَرك في معانٍ فإذا كان كذلك فللمُفتي أَنْ يُخَصِّص إطلاقات القُرآن ببعضِ المعاني‏.‏

445- قوله‏:‏ ‏(‏ما لم يُحْدِث‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ولعلهم يَدْعون عليه إذا أحدث تأذيًا عن الرائحة الكريهة، وعلى هذا ينبغي للفقيه أن يُمْعِن النظر في الكراهة فيها أنَّها تحريمية أو تنزيهية، والنَّظر يتردد في الأمور التي تشتمل على الضررِ كنومِ الجنب والوضوءِ بدون التسمية، والطعامِ، والجماعِ بدون أنَّها في أيِّ مرتبة تعتبر‏.‏ والذي يَظْهر أَنَّ الوجوبَ، والحرمة، يتبعان الأمر والنهي، دون النظر المعنوي، فلا يَجِبُ الشيءُ ولا يَحْرمُ إلا بالأمر والنهي، وبعبارةٍ أُخْرَى أنَّ المأمورَ به لا بُدَّ أَنْ يكونَ نافعًا في النَّظَر المَعْنوي، وكذلك المنهي عنه لا بُدَّ أنْ يكون مُضرًا فيه، ولا يَلْزَم أَنْ يكون كلَّ مضرٍ منهيًا عنه، وكلُّ نافعٍ مأمورًا به‏.‏

باب‏:‏ بُنْيَانِ المَسْجِد

قوله‏:‏ ‏(‏والجَريد‏)‏ وهي الغُصْن التي جُرِّدَتْ عن أورَاقِها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أكِنَّ‏)‏ يعني بجانا جاهتاهون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإياك أَنْ تُحمِّرَ أو تُصَفِّر‏)‏ واعلم أنَّه قد يَخْتَفي مرادُ الأحاديث الجلِيَّة لعدمِ الاطلاعِ على غَرَضِ الشارع والفَحْص فيه كالأحاديث في نهي تجصيص البيوت فإنَّ ظاهرها تدل على أن التجصيص لا يجوز، وبعد التحقِيق والإِمعان يُعْرَف أَنَّ النَّهْيَ عنه لإِظهارِ كَرَاهَتِه على حَسَبِ مَوْضُوعه فقط وما كان للنَّبي أَنْ يرغب في الدنيا ويُحرض في تزيينها، فإنَّ موضوع الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أَنْ يكون الإنسان في الدُّنيا كأنَّه غريب أو عابر سبيل، وتلك الكراهةُ قد تَرْتَفِع لأجل المصالح‏.‏

وكذلك ما في المِشكاة «لا تدعوا على ملوككم الظلمة، ولكن أصلحوا أنفسكم فإنكم كما تكونون يؤمَّرُ عليكم»، أو كما قال‏.‏ تمسك به بعضُهم أنَّ الدُّعاء على الملوك لا يجوز، مع أَنَّ غَرَض الحديث التوجيه إلى ما يَغْفَل عنه الإِنسان، فإن الدُعاء على الظالِم لا ينساه أحد، ولكنَّه لا يكاد يَتَوجَّه إلى حال نفسه فَوجِّه إلى ما هو الأهم‏.‏ وكقوله صلى الله عليه وسلّم لمن كان يَتهَجدِ في الليل ثم تركه «أنه لو لم يكن صلاها لكان أحسن» أو كما قال‏:‏ وبَحَثَ فيه الشارحون‏:‏ أنَّ المتهجد أحيانًا أفضلُ أو التاركُ لها مطلقًا‏؟‏ قلتُ‏:‏ بل المتهجدُ تارة أفضل يقينًا إلا أنَّهَم مشوا على الألفاظ فقط ولم يتوجهوا إلى المراد، وإنَّما مرادُهُ التحريض على المواظبةِ وكَرَاهة تركِها‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّ المقصودَ قد يكون في غيرِ المَنْطُوق والنَّاس يقتصرون أنظارَهم على المنطوقِ فقط، ويَغْفُلون عن المقصودِ فَيُفْقَد الغَرض، فالأحاديثُ الواردة في النَّهي عن تَجْصِيص البيوت لم يَرِد في الحِل والحُرمة بل لبيان ما ينبغي أَنْ يكون من حال الإِنسان في الدنيا، هل يناسبه التَّطَاول في البُنيان، والتَّخَبُّط كالعُمْيان‏؟‏ أو الاكتفاءُ بِقَدْرِ ما يحتاج والإِعداد لدار الجِنَان‏.‏

وكذلك قوله في النَّهي عن الدعاءِ على الظَّلمَة لم يَرِد في جواز الدُّعاء أو عَدَمِه، بل لِتوجِيه الأَذْهان إلى الأهم لتغافُلِهم عنه، وكذلكَ الحديث الثالث لم يَرد في بيان فَضْلِ شيءٍ على شيءٍ، بل لتحريضِ قيامِ الليل والمُدَوَامَةِ عليه، وإنَّما يَفْهَمُه من رُزِقَ فَهْمَا سليمًا‏.‏

إذَا عَلِمْتَ هذا فاعلم أنَّ الأحاديثَ قد كَثُرَت في كونِ تَجْصِيص المساجد من أمارات السَّاعة، ومع هذا جَصَّصَه عثمان رضي الله تعالى عنه من ماله، فالصحابة رضي الله عنهم نظروا إلى ظواهر الأحاديث، وكان عثمان رضي الله عنه أَفْقَهَهُمْ، فنظر إلى المصالح، وإنَّما لم يعلنه النبي صلى الله عليه وسلّم بِنَفْسِهِ المباركةِ الطيبة خشيةَ غُلُوِّ العوامِّ فيه فَوْقَ ما أراده الشارع، وفي الروايات أنَّ الصّحابةَ رضي الله عنهم لمَّا اعترضوا عليه قَامَ على المِنْبَر وَحدَّثهم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم قال‏:‏ «من بنَى لله مسجدًا بنَى الله له بيتًا في الجنة مثله»، فَحَمَلَ المِثْلِية في الكيفية أيضًا؛ وكَتَبَ السُّيُوطِيّ رحمه الله تعالى في «حاشية أبي داود»‏:‏ أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه لمَّا وَرَدَ المدينةَ وعَلِمَ القِصَّة روى الحديث مرفوعًا وقال‏:‏ إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم أَخْبَرَ بتجصيص هذا المسجد فَسُرَّ به عثمان رضي الله عنه وأَعْطَاهُ خمس مئة دينارًا، قال الحافظُ رحمه الله تعالى أنَّ نَقْشَ المساجد إذا كان على سبيل التَعْظِيم ولم يُنفق له من بيت المال فهو رُخْصَة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وقال ابن المُنَيَّر‏:‏ لمَّا شَيَّدَ النَّاسُ بيوتهُم وزخرفها‏:‏ أَنَّه لا بَأَس بأَنْ يُصْنَع كذلك بالمساجد صونًا لها عن الاستهانة، فالأَصل هو عدم التَجْصِيص، لَكِنِ الآن يُناسب التجصيص لاختلافِ العصر والزَّمَان ولا يُعدُّ ذلك خلافًا للأحاديث، إلا ترى أَنَّه لو لم يَكُنْ السَّلاطين جصصوا المساجد لما وَجَدْتَ اليوم مَسْجِدًا على وجه الأرض، وانْدَرَست رسومُها وعَفَتْ آثارُها، فدعت المصالح إلى تَجْصِيصها ولا سيما في البلاد التي غلبت عليها الكفر‏.‏

ثم اعلم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم بَنَى المسجدَ مرتين، مرة ستين في ستين، ومرة أخرى بعد خيبر مئة في مئة، ثم زاد فيه عمر رضي الله عنه في زمانِهِ، وزادَ فيه عثمان كَمَّا وكَيفًا، وميَّزَ بعضُ السلاطين تلك الزيادات بأماراتٍ يتمايزُ بها بناؤُه قَبْلَ خيبر وبعدَهُ، وبناء عمر رضي الله عنه من بناء عثمان‏.‏ وأما زِيادات سائر السلاطين فغيرُ متميِّزَة كذا في كتب السِيَر- وفيها حُجَرُ أمهاتِ النِّساء بُنيت بعد تعمير المسجد النبوي‏.‏

باب‏:‏ التَّعَاوُنِ في بِنَاءِ المَسْجِد

قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏ما كان للمشركين‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏)‏ وفي «المَدَارِك» تحت تفسيره أن إِعانة الكافرِ في المسجد لا تجوز، وكذا في «المستصفى» لصاحب «الكنز» في «الفتاوى السعدية» للمفتي سعد الله الرَّامفوري إلا أنْ يَهَبَ ماله مسلمًا ثم يبنيهِ المسلمُ بذلك المال، فهذه حِيلة لصرف أَموال المشركين في المساجد‏.‏

447‏)‏ قوله‏:‏ ‏(‏وعمارٌ لبنتين‏)‏ لَبِنَة عنه ولَبِنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كذا ذَكَرَه السَّمْهُوري‏.‏

‏(‏447- قوله‏:‏ ‏(‏وَيْحَ عمار‏)‏ قال سيبويه‏:‏ والفَرْق بين ويل وويح‏:‏ أَنَّ الأوَّل فيمن يَسْتَحِق الهلاك بخلاف الثاني فهي كلمة رحمة والأُولَى كلمة سَخْط‏.‏

447- قوله‏:‏ ‏(‏يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار‏)‏ وفي طريق آخر‏:‏ «تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ‏.‏

قال الحافظ رحمه الله تعالى ما حاصله‏:‏ أنَّ عمارًا قُتِل بصفين، ومَنْ قتلوه مِنْ أصحابِ معاوية رضي الله عنه كانوا من الصحابة رضي الله عنهم، فكيف يَصدُقُ في حقهم أنَّهم دعَوْهُ إلى النَّار وإنْ صَدَق عليهم أنَّهم كانوا الفئة الباغية‏.‏

فالجواب‏:‏ أنَّهم كانوا ظانِّين أنَّهم يَدْعون إلى الجنَّة وإنْ لم يكونوا كذلك بحسب الواقع، لكنَّهم مَعْذُورون للتَّأول الذي ظَهَرَ لهم لكونِهم مُجْتَهِدين لا لَوْمَ عليهم، فدعاؤُهم إلى مخالفة علي رضي الله عنه وإنْ كان سببًا للنارِ، لكنَّه لم يترتب عليه النَّار لِكَوْنِهِمْ مجتهدين، والمُسَبِّب قد يتخلف عن السبب إذا لم تُوْجَد شرائطه، ولا يجبُ تحققه عند وجودِ السبب مطلقًا‏.‏

قلتُ‏:‏ ولا أَرْضَى بهذا الجواب، لأنَّ هذا العنوان مأخوذ من القرآن، وهو هناك في حق الكفار، ولا أحب أنْ يكون العنوان الذي ورد فيهم صادقًا على الصحابة رضي الله عنهم بعينه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَوةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ‏}‏‏(‏غافر‏:‏ 41 وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 221‏)‏ فالوجه عندي أنَّ الكلامَ في حق الأمير معاوية رضي الله عنه، ثم إلى قوله‏:‏ «تقتله الفئة الباغية»، وصرَّح صاحب «الهداية» في كتاب القضاء‏:‏ أنَّ الأميرَ معاويةَ رضي الله عنه كان بَغَى على عليَ رضي الله عنه‏.‏ أما قوله‏:‏ «يدعوهم إلى الجنة» فاستئْنَاف لحالِهِ مَعَ المشرِكين وقريش العرب، وإشارةٌ إلى المصائبِ التي أتت عليه مِنْ جهةِ قريش، وتعذيبهم، وإلجائهم إياه على أَنْ يَكْفُر بربه فأبَى إلا أنْ يَقُول‏:‏ الله أحد‏.‏

وفيه قلت‏:‏ باده نوشان غمت داود ومعروف وجنيد جان فروشان درت عمار وسلمان وبلال‏.‏ فهذه حكاية للقِصةِ الماضيةِ ومنقطعة عما قبلها لا إخبار عن حال قائليه‏.‏

وأَجَابَ عنه الحافظُ رحمه الله تعالى بنحو آخر وقال‏:‏ إنَّ هذه الزِّيادة لم يَذْكرها الحُمَيْدِي في الجمع، وقال‏:‏ إنَّ البخاري لم يَذْكُرها أصلا ثم ذَكَر ما ظَهَرَ له في وجه حَذْفِ هذه القِطعة‏.‏

قلتُ‏:‏ فإن لم تَكُنْ تلك الزِّيادة ثابتة في هذا الطريق فإنَّها ثابتةٌ في الخارجِ بِطُرُق قوية، فالنقضُ النقض، والجوابُ الجواب‏.‏ وإنْ شئت تقرير كلامِهم على النَّحْوِ الذي يقتضي مَرِامِهِم فَقُل‏:‏ إنَّ الحُكْم قَدْ يَرِد باعتبارِ الجِنْس مع عَدَمِ تحققِهِ في بعض الأنواع، وهذا حيث يَتَأَتَّى التشكيكُ في مراتبِ الشيءِ كَضَرْبِ الدُّفِّ يُسوَّغ فيه التشكيك، ويُمْكِن أَنْ يتنوع إلى مندوب ومكروه ومباح، ولذا أَغْمَضَ عنه النبي صلى الله عليه وسلّم فيما كانت الجاريتان تُغَنِّيان عنده وتدفِّفَان، ولم يزل متغش وجهه بثوب حتى قالتا‏؟‏ «وفينا نبي يَعْلَمُ ما في غد» فكشف عن وجهه وقال‏:‏ «قولي بالذي كنت تقولين»، وإنَّما نهاهنَّ أَنْ يقلن هذا لأنَّهنَّ قُلن قولا باطلا، فلم يَمضْ عنه ساعة، وَمَنَع عنه على فورِهِ بخلاف الدُّف‏.‏ وهكذا في واقعة أخرى مثلها حتى جاءه عمر رضي الله عنه، وَرَأَيْنَه ألقينَهُ على الأرضِ وقعدن فحينئذٍ قال النَّبي صلى الله عليه وسلّم «إن الشيطان يفر من عمر»‏.‏

وأشكل على الناس قوله، فإنَّ التدفف لو كان مِنَ الشيطان كما يدل عليه قوله هذا كيف أغمض عنه، ولو كان مباحًا كما يدل عليه إغماضه كيف جعله مِنْ فعل الشيطان آخرًا‏.‏

وحله‏:‏ أنَّ الشيءَ قد يكون قدْرٌ منه حلالا ويَنْجَرُّ إلى الحرام بالإفراط والتفريط فما كان حَرَامًا باعتبار أغلب الأَحْوَال يَحْكم عليه الشرع بكونه من الشيطان باعتبار الجنس وحالِهِ الأغلب، وإن لم يتحقق بحسب خصوص المقام فالتَّدَفُّفُ وإنْ كان حلالا في بعض الأحوالِ كهذا التدفف الذي ضُرِبَ به بين يَديِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم لأَجْلِ معنىً صحيح مع فُقْدِان معنىً مُحَرَّم، لكنه لما كان حرامًا في أغلب الأحوال لانعِدَام هذه الاحتفافات نَسَبَهُ إلى الشيطان‏.‏

وحاصل صنيعه تقرير الإجازة مع إظهار الكراهة، وهو الذي يناسب منصب النبوة، فإنَّه لو نَهَى عنه مطلقًا لانعدمت الإباحة وصارَ حرامًا ولم تَبْقَ مرتبة منه جائزة ولو لم يُكْرَه ولم يُظْهِرِ الكراهة أيضًا لجاز بدون كراهة أيضًا، فكل ما كانت مباحة في نفسها باعتبار بعض الشرائط ومكروهة باعتبار انجرارِهَا ءى الحرام في الأَغْلَبِ يَرِد فيها النَّهي باعتبار الجِنْسِ مع الإِغْمَاضِ عنها عند خُلُوِّها عن الإفراط والتفريط، وهذا معنى قولهم‏:‏ إنَّ الشيء قد يكون مُوجِبَا للنار وسببًا له ثُمَّ يَتُخَلَّف عنه مسبِبَهُ، وهذا حيث يكونُ الحُكْمُ باعتبارِ الجنس يكفي لصدق تحققه في فرد ما وإنْ لم يَتَحقَّق في خصوص هذا المورد كما في «مستدرك الحاكم»‏:‏ «أن رجلا جاءه فسأله مالا فأعطاه حتى فعل ثلاث مِرَار يُعْطِيه كلَّ مَرَّة فلَمَّا ولَّى قال‏:‏ إنَّ السؤالَ جمرةٌ فمن شاء استقلَّ ومَنْ شاء استَكْثَر قال رجلٌ‏:‏ يا رسول الله فَلِمَ أعطيتَهُ‏؟‏ قال‏:‏ إنَّ الناس لَيْسئَلِونَنِي وَيَأْبَى الله أَنْ أكونَ بخيلا» أو كما قال‏.‏

قلتُ‏:‏ شرحه عندي أنَّ الشؤالَ شأنُهُ أن جمرة من النَّار سواء ترتب عليه النار أوْ لا، فهذا حكم جنسي يكفي لصدْقِ تحقُقِه في الجنس، وإنْ لم يَتْقق في خصوص هذا السائل مثلا‏.‏ ومَرَّ التُّوْربِشْتِي الحنفي في «عقائده» على الأحاديث التي يكون فيها الوعيد بالنار على المعصية وَقَرَّرٍ مرادَها بما يَقْرُب من هذا التحقيق‏.‏

وحاصله‏:‏ أنَّ تلك المعاصي أسبابُ النَّارِ ولا يَلْزَم من ارتكابِ الأسبابِ ترتب مسبِبَاتِهَا، فإِنَّ ترتب المسبِبَات يَتَوقَّف على أمورٍ أخرى من ارتفاعِ الموانِع، ووجود الشرائطِ، وربما يكون مَنْوِيًا‏.‏

ثم إنَّ الشرع قَدْ يَحْكم بالنَّار على أمر حسي فما البُعد فيما حَكَم بها على سببٍ من أسبابِها، بل هو طريق مَعْروف مسلوكٌ مؤثر، وَتَحَصَّل من هذا شَرحٌ جيد لأحاديث الوعيد فاحفظه‏.‏

وحينئذٍ معنى قوله‏:‏ «إنَّهم يدعونه إلى النار» باعتبار الجنس، يعني أنَّ مثلَ هذه الدعوةِ كانت سببًا للنَّار إلا أنَّه تخلَّف عنه مسبِبَه في حق الصحابة رضي الله عنهم خاصة لمانِع، وهو كونهُم مجتهدين قاصدين الصوابَ والحق، والله تعالى أعلم‏.‏

باب‏:‏ الاِسْتِعَانَةِ بالنَّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ في أَعْوَادِ المِنْبَرِ وَالمَسْجِد

وإنَّما ترجم بالمِنْبَرِ لحديثٍ عِنْدَهُ في خُصوصِ المِنْبَرِ، وفي رواية «أنَّ مِنْبَرهُ جُعِلَ على مِنْبَرِ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام وهو أوَّل من بنى مِنْبرًا، وكذا في رواية أخرى «أنَّ مسجدَهُ كان على هيئة مسجد موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو أوَّل من بنى مِنْبرًا، وكذا في رواية أخرى «أنَّ مسجدَهُ كان على هيئة مسجد موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ثم لا يَدْرِي ماذا أراد بقوله‏:‏ «عريش كعريش موسى عليه السَّلامُ»، التشبيه في الارتفاع أو مجموعِ الهيأة‏.‏